فصل: تفسير الآيات (15- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (15- 16):

{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)}
وقوله تعالى: {والاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَائِكُمْ...} الآية: الفَاحِشَةُ؛ في هذا الموضِعِ: الزِّنَا، وقوله: {مِّن نِّسَائِكُم}، إضافةٌ في معناها الإسلام، وجعل اللَّه الشهادة علَى الزِّنَا خاصَّة لا تَتِمُّ إلا بأربعةِ شُهَدَاءَ، تَغْلِيظاً على المُدَّعي، وسَتْراً على العبادِ.
قلت: ومن هذا المعنى اشتراط رُؤْية كَذَا في كَذَا؛ كَالمِرْوَدِ في المُكْحُلَة.
قال * ع *: وكانَتْ أولُ عقوبة الزُّنَاةِ الإمْسَاكَ في البُيُوت، ثم نُسِخَ ذلك بالأذَى الَّذي بَعْده، ثم نُسِخَ ذلك بآية النُّور وبالرَّجْمِ في الثَّيِّب؛ قاله عبادة بنُ الصَّامت وغيره، وعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن؛ أنه قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، ثُمَّ أَقْلَعَ عَنْهُ، وَوَجْهُهُ مُحْمَرٌّ، فَقَالَ: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً؛ البِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ»، خرَّجه مُسْلِم، وهو خَبَرٌ آحادٌ، ثم ورد في الخَبَر المتواتِرِ؛ أنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم رَجَمَ، وَلَمْ يَجْلِدْ، فَمَنْ قال: إن السُّنَّة المتواتِرَةَ تَنْسَخُ القُرآن، جعَلَ رَجْمَ الرسول دُونَ جَلْدٍ ناسخاً لجَلْدِ الثيِّب، وهذا الذي عليه الأَمَّة؛ أنَّ السُّنَّة المتواترة تَنْسَخُ القُرآن؛ إذ هما جميعاً وحْيٌ من اللَّه سبحانَهُ، ويوجِبَانِ جميعاً العِلْم والعَمَل.
ويتَّجه عندي في هذه النَّازلة بعَيْنها أنْ يُقَالَ: إن الناسِخَ لِحُكْمِ الجَلْد هو القرآن المتَّفَقُ على رَفْعِ لفظه، وبقاءِ حُكْمه في قوله تعالى: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فارجموهما أَلْبَتَّةَ»، وهذا نصٌّ في الرجم، وقد قَرَّره عمر على المِنْبر بمَحْضَر الصَّحابة، والحديثُ بكماله في مُسْلم، والسُّنَّةُ هي المبيِّنة، ولفظُ البخاريِّ: «أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً؛ الرَّجْمُ لِلثَّيِّب، وَالجَلْدُ لِلْبِكْرِ». انتهى.
وقوله تعالى: {والذان يأتيانها مِنكُمْ...} الآية: قال مجاهدٌ وغيره: الآيةُ الأولى في النساء عموماً، وهذه في الرِّجال، فعقوبةُ النِّساء الحَبْسُ، وعقوبةُ الرِّجَالِ الأذى، وهذا قولٌ يقتضيه اللَّفْظ، ويستوفي نصُّ الكلام أصنافَ الزُّنَاة عامَّة؛ ويؤيِّده مِنْ جهة اللفظ قولُه في الأولى: {مّن نِّسَائِكُمُ}، وقوله في الثانية: {مّنكُمْ}، وأجمع العلماءُ على أنَّ هاتين الآيتين منُسْوخَتَانِ؛ كما تقدَّم.

.تفسير الآيات (17- 18):

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)}
وقوله تعالى: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء بجهالة...} الآية.
قال * ص *: التوبةُ: مبتدأٌ؛ على حذفِ مضافٍ، أي: قَبُولُ التوبةِ. انتهى.
قال * ع *: {إنَّمَا}: حاصرةٌ، وهو مَقْصد المتكلِّم بها أبداً، فقد تصادِفُ من المعنى ما يقتضي العَقْلُ فيه الحَصْر؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا الله إله واحد} [النساء: 171]، وقد لا تصادف ذلك؛ كقوله: إنَّمَا الشُّجَاعُ عَنْتَرَةُ، وهي في هذه الآية حاصرةٌ؛ إذ ليستِ التوبةُ إلا لهذا الصِّنْف المذكور، وتصحُّ التوبة، وإن نَقَضَها التائِبُ في ثانِي حَالٍ بمعاودَةِ الذنْبِ، فإنَّ التوبة الأولى طاعةٌ قد انقضت وصحَّت، وهو محتاجٌ بعد مواقعة الذَّنْب إلى توبةٍ أخرى مستأنَفَةٍ، وتصحُّ أيضاً التوبةُ من ذَنْب مع الإقامة على غيره من غير نَوْعِهِ، خلافاً للمُعْتَزِلَة في قولهم: لا يكُونُ تائباً مَنْ أقام على ذَنْب.
وقوله تعالى: {عَلَى الله}، أي: على فَضْلِ اللَّه ورحْمتِهِ لعبادِهِ، وهذا نَحْوُ قولِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ»، إنما معناه: ما حقُّهم على فَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ، والعقيدةُ أنَّه لا يجبُ على اللَّه تعالى شيْءٌ عقلاً، و{السوء}؛ في هذه الآية: يعمُّ الكُفْرَ والمعاصِيَ، وقوله تعالى: {بِجَهَالَةٍ}: معناه: بسفاهةٍ، وقلَّةِ تحصيلِ أدى إلى المعصية، وليس المعنى أنْ تكونَ الجَهَالَةُ بِأنَّ ذلِك الفِعْلَ معصيةٌ؛ لأنَّ المتعمِّد للذُّنوبِ كان يَخْرُجُ من التَّوْبَةِ، وهذا فاسدٌ إجماعاً، وما ذكرتُهُ في الجَهَالة قاله أصْحَابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ذَكَرَ ذلك عَنْهم أبو العَالِيَةِ، وقال قتادةُ: اجتمع أصْحَابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على أنَّ كلَّ مَعْصِيَةٍ، فَهِيَ بِجَهَالَةٍ، عَمْداً كانَتْ أو جهلاً؛ وقال به ابنُ عَبَّاس، ومجاهد، والسُّدِّيُّ، وروي عن مجاهدٍ والضَّحَّاك؛ أنهما قالا: الجَهَالَةُ هنا العَمْد، وقال عِكْرِمَةُ: أمور الدنيا كلُّها جهالة.
قال * ع *: يريد الخاصَّة بها الخارِجَةَ عَنْ طاعة اللَّه سبحانه، وهذا المعنى عندي جَارٍ مع قوله تعالى: {أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20].
واختلف المتأوِّلون في قوله تعالى: {مِن قَرِيبٍ}.
فقال ابن عبَّاس والسُّدِّيُّ: معنى ذلك: قَبْلَ المَرَضِ والموتِ، وقال الجمهورُ: معنى ذلك قَبْلَ المعايَنَةِ للملائِكَةِ والسَّوْق، وأن يُغْلَبَ المَرْءُ على نفسه، وروى أبو قِلاَبَةَ؛ أنَّ اللَّه تعالى لَمَّا خَلَقَ آدم فَرَآهُ إبْلِيسُ أَجْوَفَ، ثُمَّ جرى لَهُ مَا جرى، ولُعِنَ وَأُنْظِرَ، قَالَ: وَعِزَّتِكَ، لاَ بَرِحْتُ مِنْ قَلْبِهِ، مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ، فقَالَ اللَّه تعالى: «وَعِزَّتِي لاَ أَحْجُبُ عَنْهُ التَّوْبَةَ مَا دَام فِيهِ الرُّوحُ». قال * ع *: فابنُ عبَّاس رضي اللَّه عنه ذكَرَ أحسن أوقاتِ التوبة، والجمهورُ حَدُّوا آخر وقتها، وروى بَشِيرُ بْنُ كَعْب، والحَسَنُ؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تعالى يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ، وَيُغْلَبْ على عَقْلِهِ». قال * ع *: لأنَّ الرجاءَ فيه باقٍ، ويصحُّ منه النَّدَمِ والعَزْم على التركِ، وقوله تعالى: {مِن قَرِيبٍ}، إنما معناه: مِنْ قريبٍ إلى وقْت الذَّنْبِ، ومُدَّةُ الحياةِ كلِّها قريبٌ، والمبادرةُ في الصِّحَّة أفضلُ، قلت: بل المبادرة واجبَةٌ.
وقوله تعالى: {وَكَانَ الله عَلِيماً}، أي: بمَنْ يتوبُ، ويُيَسِّره هو سبحانه للتَّوْبَة {حَكِيماً}: فيما ينفذه من ذلكَ، وفي تَأْخِيرِ من يُؤَخِّر حتى يَهْلِكَ، ثم نفى بقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التوبة...} الآية: أنْ يدخُلَ في حُكْم التائبين مَنْ حضره موتُهُ، وصار في حَيِّز اليأس؛ كما كان فرعونُ حِينَ صار في غَمْرة المَاءِ، والغَرَقِ، فلم ينفعْهُ ما أظهره من الإيمان؛ وبهذا قال ابنُ عَبَّاس وجماعةُ المفسِّرين.
قال * ع *: والعقيدةُ عندي في هذه الآيات: أن مَنْ تاب مِنْ قريبٍ، فله حُكْمُ التائب، فَيَغْلِبُ الظَّنُّ عليه؛ أنه ينعَّم ولا يعذَّب؛ هذا مذهبُ أبي المَعَالِي وغيره.
وقال غيرهم: بل هو مغفُورٌ له قطعاً لإخبار اللَّه تعالى بذلك، وأبو المَعَالِي يجعل تلْكَ الأخبار ظَوَاهِرَ مشروطةً بالمَشِيئَةِ، ومَنْ لَم يَتُبْ حتى حضره المَوْت، فليس في حُكْم التائبين، فإنْ كان كافراً، فهو يخلَّد، وإن كان مؤمناً، فهو عاصٍ في المشيئة، لكنْ يَغْلِبُ الخَوْفُ عليه، ويَقْوَى الظنُّ في تعذيبه، ويُقْطَعُ من جهة السمْع؛ أنَّ مِنْ هذه الصَّنِيفَةِ مَنْ يَغْفِرُ اللَّه تعالى لَهُ؛ تفضُّلاً منه لا يعذِّبه.
وأَعْلَمَ اللَّه تعالى أيضاً؛ أنَّ الذين يموتُونَ، وهم كفَّار؛ فلا مُستعْتَبَ لهم، ولا توبةَ في الآخِرَةِ.
وقوله تعالى: {أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}: إنْ كانتِ الإشارة إلى الذين يموتُونَ، وهم كفَّار، فقَطْ، فالعذَابُ عذَابُ خلودٍ مؤبَّد، وإنْ كانَتِ الإشارة إليهم وإلى مَنْ ينفذ علَيْه الوعيدُ مِمَّنْ لا يتُوبُ إلاَّ مع حضورِ المَوْت، فهو في جهة هؤلاءِ عَذَابٌ لا خلود معه، {وَأَعْتَدْنَا} معناه: يسَّرناه وأحْضَرْناه.

.تفسير الآيات (19- 21):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)}
قوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً...} الآية: قال ابن عَبَّاس: كانوا في الجاهليَّة، إذا مات الرجُلُ كانَ أولياؤه أحَقَّ بامرأته مِنْ أهلها، إنْ شاؤوا تزوَّجها أحدُهُم، وإن شاؤوا زوَّجوها مِنْ غيرهم، وإن شاؤوا مَنَعُوهَا الزَّوَاج، فنزلَتِ الآيةُ في ذلِكَ.
وقال بعضُ المتأوِّلين: معنى الآية: لا يحلُّ لكم عَضْل النساءِ اللواتِي أنْتُم أولياء لهنَّ، وإمساكُهُنَّ دون تزويجٍ؛ حتى يَمُتْنَ، فتورَثُ أموالُهُنَّ.
قال * ع *: فعلى هذا القولِ: فالموروث مالُهَا، لا هِيَ؛ وروي نَحْوَ هذا عن ابْنِ عَبَّاس.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ...} الآية: قال ابنُ عبَّاس وغيره: هي أيضاً في أولئك الأولياء الذين كَانُوا يَرِثُون المرأةَ، لأنهم كانوا يتزوَّجونها؛ إذا كانَتْ جميلةً، ويمسِكُونها حتى تموتَ؛ إذا كانت دميمةً؛ وقال نحوَهُ الحَسَن، وعِكْرِمَة، وقال ابنُ عبَّاس أيضاً: هي في الأزواج في الرَّجُل يُمْسِكُ المرأَةَ، ويسيءُ عِشْرتها؛ حتى تَفْتَدِيَ منه؛ فذلك لا يحلُّ له، وقَالَ مثلَهُ قتادةَ، وهو أقوى الأقوال؛ ودليل ذلك: قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ}، وإذا أتَتْ بفاحشةٍ، فليس للوليِّ حَبْسُهَا حتَّى يذهب بمالِهَا؛ إجماعاً من الأُمَّة، وإنما ذلك للزَّوْج على ما سنبيِّنه الآن إن شاء اللَّه، وكذلك قوله: {عَاشِرُوهُنَّ...} إلى آخر الآية، يظهر منه تقويةُ ما ذكرته.
واختلِفَ في معنى الفَاحِشَةِ هنا، فقال الحسَنُ بنُ أبي الحَسَن: هو الزِّنَا، قال أبو قِلاَبَةَ: إذا زنَتِ امرأة الرجُلِ، فلا بأس أنْ يُضارَّها، ويَشُقَّ عليها؛ حتى تَفْتَدِيَ منْه، وقال السُّدِّيُّ: إذا فعلْنَ ذلك، فَخُذُوا مهورَهُنَّ.
قلْتُ: وحديثُ المتلاعنَيْن يضعِّف هذا القولَ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فَذَاكَ بِمَا استحللت مِنْ فَرْجِهَا...» الحديث.
وقال ابنُ عبَّاس وغيره: الفاحشةُ في هذه الآية: البُغْضُ والنُّشُوز؛ فإذا نَشَزَتْ، حلَّ له أنْ يأخذ مالَهَا.
قال * ع *: وهو مذهبُ مالكٍ.
وقال قوم: الفاحشةُ: البَذَاء باللِّسان، وسوءُ العِشْرة قولاً وفعلاً، وهذا في معنَى النُّشُوز.
قال * ع *: والزنا أصعَبُ علَى الزَّوْج من النُّشُوز والأذى، وكُلُّ ذلك فاحشةٌ تُحِلُّ أَخْذَ المالِ.
وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف}: أمرٌ يعمُّ الأزواجَ والأولياءَ، ولكنَّ المتلبِّس في الأغلب بهذا الأمر الأزواجُ، والعِشْرَةُ: المخالطةُ والممازجة.
وقوله تعالى: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}، قال السُّدِّيُّ: الخيرُ الكثيرُ في المرأة الولَدُ، وقال نحوَهُ ابْنُ عَباس.
قال * ع *: ومِنْ فصاحة القرآن العمومُ الذي في لفظَةِ شَيْء؛ لأنه يطَّرد هذا النَّظَرُ في كلِّ ما يكرهه المرءُ ممَّا يجمُلُ الصبْرُ عليه، ويحسُنُ، إذ عاقبةُ الصَّبْرِ إلى خيرٍ، إذا أريد به وَجْهُ اللَّهِ.
وقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ.
..} الآية: لما مضى في الآية المتقدِّمة حُكْمُ الفِرَاقِ الذي سبَبَهُ المرأةُ، وأنَّ للزوج أخْذَ المالِ منْها، عَقَّبَ ذلك بِذكْرِ الفِراقِ الذي سبَبَه الزَّوْجُ، والمَنْع من أخْذ مالها مع ذلك.
وقال بعضُ النَّاس: يؤخَذُ من الآية جوازُ المُغَالاة بالمُهُور، وقال قوم: لا تُعْطِي الآيةُ ذلك؛ لأن التمثيل إنما جاء على جهة المبالغةِ.
والبُهْتان: مصدر في موضعِ الحالِ، ومعناه: مُبْهتاً، ثم وعَظَ تعالى عباده، و{أفضى}: معناه: بَاشَرَ، وقال مجاهدٌ وغيره: الإفْضَاءُ في هذه الآية: الجماعُ، قال ابنُ عَبَّاس: ولكنَّ اللَّه كريمٌ يَكْنِي.
واختلف في المراد بالميثاقِ الغَليظِ.
فقال الحسن وغيره: هو قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 229] وقال مجاهدٌ، وابنُ زَيْدٍ: الميثاقُ الغليظُ: عُقْدةُ النِّكاحِ، وقولُ الرَّجُلِ: نَكَحْتُ، ومَلَكْتُ النِّكاحَ، ونحوه، فهذه التي بها تستحلُّ الفرُوج.
وقال عكرمة، والرَّبيع: الميثاقُ الغليظُ يفسِّره قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً فَإنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، واستحللتم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ».

.تفسير الآية رقم (22):

{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)}
قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}: سبب الآيةِ ما اعتادته بعضُ قبائلِ العَرَبِ أنْ يَخْلُفَ ابنُ الرَّجُلِ على امرأةِ أَبِيهِ، وقد كان في العَرَب من تَزَوَّجَ ابنته، وهو حَاجِبُ بْنُ زُرارة.
واختلف في مقتضى ألفاظ الآية.
فقالَتْ فرقةٌ: قوله: {مَا نَكَحَ}، يريد: النساءَ، أي: لا تنكحوا النساءَ اللواتي نكَحَ آباؤكم، وقوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}، معناه: ولكنْ ما قَدْ سَلَفَ، فَدَعُوهُ، وقال بعضهم: المعنى: لكنْ ما قد سَلَفَ، فهو مَعْفُوٌّ عنكم لِمَنْ كان واقَعَهُ، فكأنه قال: ولا تفعلوا، حَاشَا ما قد سَلَفَ، وقالتْ فرقة: معناه: لا تَنْكِحُوا كَمَا نَكَح آباؤكم مِنْ عقودهم الفاسدةِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ منْكم مِنْ تلك العقودِ الفاسدةِ، فمباحٌ لكم إلاقامةُ علَيْه في الإسلامِ، إذا كان ممَّا يقرِّر الإسلامُ عَلَيْه، وقيل: إلا ما قد سَلَفَ، فهو معفوٌّ عنكم، وقال ابن زَيْدٍ: معنى الآية: النهْيُ عن أَنْ يطاء الرجُلُ امرأةً وطئها الأبُ، إلاَّ ما سَلَفَ من الآباءِ في الجاهليَّة مِنَ الزِّنا بالنساءِ، لا على وجه المُنَاكَحَةِ، فذلك جائزٌ لكُمْ؛ لأنَّ ذلك الزنَا كَانَ فاحشةً، والمَقْتُ: البُغْض والاحتقار، بسبب رذيلة يفعلها الممقُوتُ، {وَسَاءَ سَبِيلاً}: أي: بئْسَ الطريقُ والمنهجُ لِمَنْ يسلكه؛ إذ عاقبته إلى عذاب اللَّه.
قال * ص *: {سَاءَ} للمبالغةِ فِي الذمِّ؛ ك بِئْسَ، وسَبِيلاً: تفسيرُهُ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ، أي: سبيلُ هذا النكاحِ؛ كقوله تعالى: {بِئْسَ الشراب} [الكهف: 29]، أي: ذلِكَ الماءُ انتهى.

.تفسير الآية رقم (23):

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)}
وقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم...} الآية: حُكْمٌ حرَّم اللَّه به سبعاً من النَّسَب، وسِتًّا من بَيْنِ رضاعٍ وصهْرٍ، وأَلْحَقَتِ السنةُ المتواترةُ سابِعَةً، وهي الجَمْعُ بَيْنَ المرأةِ وعَمَّتها، ومضى عليه الإجماع، وروي عن ابْنِ عَبَّاس؛ أنه قال: حُرِّمَ من النَّسَب سَبْعٌ، ومن الصِّهْرَ سَبْعٌ، وتلا هذه الآية، وقال عمرو بن سالم مِثْلَ ذلك، وجعل السابعةَ قولَهُ تعالى: {وَالمُحْصَنَاتُ} [النساء: 24].
وقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}، أي: سواءٌ دَخَلَ بالبنْتِ، أو لم يَدْخُلْ، فبالعَقْدِ علَى البنْتِ حُرِّمَتِ الأُمُّ؛ هذا الذي عليه الجمهورُ.
وقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ الاتي فِي حُجُورِكُمْ} ذَكَرَ الأغلَبَ من هذه الأمور؛ إذ هذه حالةُ الرَّبِيبَةِ في الأكْثَر، وهي محرَّمة، وإن لم تكُنْ في الحِجْرِ، ويقالُ: حِجْرٌ بكسر الحاء، وفَتْحِها، وهو مقدَّم ثَوْبِ الإنسان وما بَيْنَ يديه منه، ثم استعملت اللفظةُ في الحِفْظِ والسَّتْر.
وقوله: {الاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}، قال ابن عبَّاس وغيره: الدخُولُ هنا الجماعُ، وجمهورُ العلماءِ يقُولُون: إنَّ جميعَ أنواعِ التلذُّذ بالأُمِّ يُحَرِّمُ الإبنةَ؛ كما يحرِّمها الجماعُ، والحلائلُ: جمعُ حَلِيلةٍ؛ لأنها تَحُلُّ من الزَّوْج حيث حَلَّ، فهي فَعِيلَةٌ بمعنى فَاعِلَةٍ، وذهب الزَّجَّاج وقومٌ؛ إلى أنَّها مِنْ لفظة الحَلاَلِ، فهي حليلةٌ بمعنى مُحَلَّلَةٍ.
وقوله تعالى: {الذين مِنْ أصلابكم} يخرُج مَنْ كانَتِ العربُ تتبنَّاه مِمَّنْ ليس للصُّلْب، وحُرِّمَتْ حليلةُ الابن مِنَ الرَّضَاعِ، وإنْ لم يكُنْ للصُّلْب بالإِجماع المستَنِدِ إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ». وقوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين}: لفظٌ يعمُّ الجمْعَ بنكاحٍ وبملك يمين، وأجمعتِ الأمَّة على مَنْع جَمْعِهِمَا بنكاحٍ، ولا خلافَ في جواز جَمْعِهِمَا بالمِلكِ، ومذْهَبُ مالكٍ؛ أنَّ له أنْ يَطَأَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ، والكَفُّ عن الأخرى موكولٌ إلى أمانَتِهِ، فإن أراد وطْءَ الأخرى، فيلزمه أنْ يحرِّم فَرْجَ الأولى بعتْقٍ، أو كتابةٍ، أو غَيْرِ ذلك؛ وثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى أنْ يُجْمَعَ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا»، وأجمعت الأُمَّة على ذلك.

وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}: استثناء منقطعٌ، معناه: لكنْ ما قد سَلَفَ من ذلك، ووقع وأزالَهُ الإِسلام، فإن اللَّه تعالى يغفره، والإسلام يَجُبُّهُ.